آفاق البيئة والتنمية- في عام 2005، أثارت المياه الموحلة انتباه ستيفان توك، الذي كان آنذاك يجري دراسات ما بعد الدكتوراة بجامعة أوتريخت الهولندية عن نهر الإمز الذي يصب في بحر الشمال بين ألمانيا وهولندا. وكان المهندسون قبل عقود قد نفذوا عمليات تجريف لأجزاء من نهر الإمز لتبحر فيه السفن القادمة من حوض بناء السفن في أعالي النهر.
لكن هذه التغييرات أثرت أيضا على أنماط ارتفاع النهر وانخفاضه تأثرا بالمد والجزر في البحر. وأدى هذا التغير في حركة المد والجزر إلى تحريك الرواسب في قاع النهر وتعكير المياه. وعلى مدى 120 عاما، تضاعف نطاق المد والجزر- أي الفرق بين منسوبي المياه أثناء المد والجزر- في مصب نهر الإمز بنحو خمس مرات.
ويقول توك، الذي أصبح الآن عالم محيطات بجامعة بوليتكنيك بولاية كاليفورنيا: "كنت أعتقد دائما أن حركة المد والجزر ثابتة، ولهذا لدينا جداول للمد والجزر". لكنه اندهش حين اكتشف أن حركة المد والجزر عرضة للتغيرات واسعة النطاق وطويلة الأمد.
وربما يعتقد معظم الناس أن حركة المد والجزر منتظمة ويمكن التنبؤ بها، إذ تحدث ظاهرة ارتفاع المياه الساحلية وانخفاضها الناتجة عن تأثير قوى الجذب الخاصة بالشمس والقمر، وفقا لجداول دقيقة وضعها البحارة لمواعيد المد والجزر.
لكن علماء المحيطات اكتشفوا مؤخرا أن حركة المد والجزر في مختلف المناطق حول العالم طرأت عليها بعض التغيرات الملحوظة بطرق لا يمكن عزوها للتفاعل بين الأجرام السماوية.
إذ اكتشفوا أن هذه التغيرات سببها الأنشطة البشرية. فقد يؤدي تجريف مجاري الأنهار أو ردم المستنقعات الساحلية إلى حدوث تغيرات في حركة المد والجزر، لكن طبيعة هذه التغيرات قد تختلف من مكان لآخر. فبينما قد يرتفع نطاق المد والجزر في بعض المناطق ارتفاعا مهولا، فإنه قد ينخفض في مناطق أخرى. وفي كلتا الحالتين، يؤثر تغير حركة المد والجزر على حياة مئات الملايين من سكان المناطق الساحلية.
ولعل أكبر التحديات التي يفرضها تغير حركة المد والجزر هي زيادة مخاطر ارتفاع منسوب مياه البحر.
وقد تسبب الاحترار العالمي الناتج عن حرق الوقود الأحفوري وتزايد انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الجو، في إذابة الغطاء الجليدي وتمدد المحيطات. وأصبحت مناسيب مياه البحار في بعض المدن الساحلية أكثر ارتفاعا من أي وقت مضى. وقد يفاقم تغير حركة المد والجزر هذه المشاكل ويزيد مخاطر حدوث الفيضانات في بعض السواحل.
ويقول إيفان هاي، عالم محيطات بجامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن ما لا يعرفه الكثيرون أن تزايد نطاق المد والجزر يفاقم هذه المشاكل.
وقد عرف المهندسون منذ قرن على الأقل أن حركة المد والجزر عرضة للتغيرات. ففي عام 1899، تنبأ عمال البناء بأن حركة المد والجزر ستزيد في نهر الإمز بعد تشييد أحد السدود. وزادت بالفعل حركة المد والجزر كما توقعوا بعد الانتهاء من السد.
لكن علماء جمعوا بيانات حديثة لقياس المد والجزر بدقة حول العالم، واكتشفوا أن التغيرات في حركة المد والجزر أصبحت أوسع نطاقا مؤخرا.
وهناك أنواع عديدة من المد والجزر، لكن كلها تحدث بتأثير جاذبية الشمس والقمر على الأرض. وتؤدي كل دورة مد وجزر إلى ارتفاع المياه الساحلية وانخفاضها بنمط محدد يمكن التنبؤ به، وتحدده مدارات هذه الكواكب الثلاثة.
ورغم أن قوى الجذب بين القمر والشمس لا تتغير على المدى القصير، فإن الطريقة التي تستجيب بها المياه على كوكب الأرض لقوة الجذب هي التي تتغير. ويشبه توك تيارات المد بالموجات المتلاحقة التي ترتد عندما تصل إلى سطح الكتل الأرضية وتندفع بقوة لتصطدم بالنهر، وأحيانا تغطي مئات الكيلومترات من اليابسة، كما يحدث لنهر الأمازون في أمريكا الجنوبية، حيث يركب رواد الشاطئ موجات المد. وإذا تغير تصميم المنطقة التي تتعرض للمد تتغير أيضا حركة المد والجزر.
ويقول توك إن هذا يشبه تغيير شكل برك السباحة أو حجمها الذي يؤدي بالضرورة إلى تغيير نمط تدفق المياه فيها.
ولهذا لم يكن من المستغرب أن تتغير حركة المد والجزر كثيرا في المناطق التي زادت فيها عمليات التجريف. إذ أدت عمليات التجريف لتعميق إحدى القنوات بمحاذاة نهر كيب فير في ولاية نورث كارولينا إلى زيادة الفرق بين منسوبي المياه أثناء المد والجزر في مدينة ويلمنغتون بمقدار الضعف منذ الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
وفي مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا، اختفى المد والجزر في نهاية القرن التاسع عشر بعد أن أدى التنقيب عن الذهب أثناء حمى الذهب إلى زيادة الطمي في مجرى النهر. لكن عمليات التجريف في نهر ساكرامنتو أعادت حركة المد والجزر إلى النهر.
وأجريت عمليات تعميق وتضييق عديدة في نهر التيمز على مدى قرون، وزاد الفرق بين منسوبي المياه أثناء المد والجزر في النهر من مترين في عصر الرومان إلى نحو ثمانية أمتار في العصر الفيكتوري.
يشهد خليج فاندي في كندا واحدا من أكبر نطاقات المد والجزر في العالم في يوم واحد
وذكر توك في استعراض سنوي للعلوم الملاحية، أن التغيرات في حركة المد والجزر تطرأ كلما تولدت طاقة عن المياه المتدفقة أثناء جريانها في المنطقة. وتسهم إزالة النباتات المائية في انسياب المياه وزيادة تدفقها ومن ثم زيادة حركة المد والجزر.
ويؤدي بناء الأرصفة والحواجز إلى زيادة قوة تدفق المياه وسرعة تبدد الطاقة ومن ثم تخفف من قوة حركة المد والجزر.
وتزداد التغيرات في حركة المد والجزر كلما كانت المياه أكثر ضحالة. ولهذا يشهد خليج فاندي، بين مقاطعتي نيو برونزويك ونوفا سكوشا في كندا، واحدا من أعلى نطاقات المد والجزر في العالم، إذ ترتفع المياه وتنخفض لأكثر من 11 مترا يوميا. ويقول هاي إن هذه النقاط الضحلة تشهد تغيرات كبيرة في نطاق المد والجزر كلما ارتفع منسوب البحر.
ويتأثر سكان المناطق الساحلية بهذه التغيرات بطرق عدة، فلكي تبحر بسفينتك الضخمة في النهر عليك الانتظار حتى ينحسر المد قليلا لئلا تصطدم بالجسر، وقد يتوقف بناء المنزل المطل على مصب النهر على معرفة أعلى مستوى للمد. ويحتاج المهندسون الذين يصممون مشروعا لتوليد الطاقة من المد والجزر لمعرفة حجم الطاقة التي يمكن توليدها من تدفق المياه.
والأهم من ذلك أن المهندسين يحللون أنماط المد والجزر المتغيرة لوضع خطط محكمة تحسبا لارتفاع مسنوب مياه البحر مستقبلا. وحسبت ميشيلا دي دومينيكس، عالمة المحيطات بمركز علم المحيطات الوطني بمدينة ليفربول وزملاؤها، مدى التغير الذي سيطرأ على نطاق المد والجزر لمعرفة مدى ارتفاع منسوب مياه البحر وفقا لتصورات عديدة.
واكتشفوا أن المدن الواقعة بالقرب من منبع النهر قد تشهد زيادة في نطاق المد والجزر بما يتراوح بين واحد إلى 50سنتيمتر، في حال ارتفع مستوى سطح البحر بما يتراوح بين 0.5 و2.1 مترا في الدلتا، وخلصوا إلى أن منسوب المياه قد يرتفع بما يتراوح بين 0.6 و2.6 مترا.
وتقول دومينيكس إن هناك مدنا عديدة في الدلتا مهددة بالغرق بسبب ارتفاع منسوب المياه، منها كوانزو وشنزن. وقد يستعين المهندسون بهذه المعلومات لمعرفة مدى ارتفاع الحواجز وغيرها من السدود الساحلية التي يحتاجون لبنائها.
ويستخدم أيضا الباحثون نماذج المحاكاة بالكمبيوتر لتحليل تأثير التغيرات في حركة المد والجزر وارتفاع منسوب مياه البحار على الأنواع الأخرى من الفيضانات الساحلية. فقد تتأثر أيضا قوة العاصفة على سبيل المثال، كشأن حركة المد والجزر، بالتغيرات التي تطرأ على المنطقة.
وفي عام 2016، حلل توك وزملاؤه التغيرات التي قد تطرأ على قوة العاصفة في مصب نهر كيب فير وحركة المد والجزر استجابة لعمليات التجريف والحفر، وخلصوا إلى أن تجريف القناة أدى إلى مفاقمة الأضرار الناتجة عن إعصار من الفئة الخامسة ورفع مناسيب المياه إلى أعلى حد في مدينة ويلمينغتون بنحو 1.8 مترا.
وفي عام 2018، عندما ضرب إعصار فلورنس من الفئة الأولى مدينة ويلمينغتون، بلغ ارتفاع المياه مستويات غير مسبوقة. ولهذا يؤكد توك على أهمية فهم تغيرات المد والجزر للاستعداد للمستقبل. فتجريف القنوات وردم المستنقعات وكل العمليات التي تغير المناطق الساحلية، ستؤدي تدريجيا إلى تغيير العالم الذي نعيش فيه. ويؤكد توك على أن التغيرات الكبيرة ما هي إلا محصلة لجميع التغييرات الطفيفة.